| 0 التعليقات ]


ليبيا وتركيا .. تاريخ ونضال

منذ اليوم الأول لأحداث ليبيا تهيمن معالجة سطحية إلى حد كبير من قِبَل الإعلام التركي على تناول تطورات الأحداث في ليبيا، وهو ما ينطبق أيضًا على تناوله للأحداث في الدول العربية الأخرى. فالإعلام يتحدث عن ليبيا وكأنه يتحدث عن دولةٍ ما على الخريطة ... وكأن تركيا لا يعنيها في تركيا سوى مواطنيها وعمالها الأتراك ومنشآتهم الصناعية، دون التطرق إلى أي روابط إنسانية أو ثقافية أو تاريخية تجمعنا بليبيا. فالإعلام يقدم لنا العلاقة التركية الليبية في مستوى أقل من العلاقات التركية مع الصين أو إيطاليا. بل إن الحكومة التركية عندما امتلكت الشجاعة لتوجيه تصريحات إزاء الشأن المصري، إذا بها وهي تحاول اتخاذ موقف ضد القذافي توجه إليه رسائل بعيدة عن الروابط التاريخية بين البلدين.
 
عندما زرتُ طرابلس للمرة الأولى قبل خمسة عشر عامًا أبهرني ذلك السوق المغطى القديم الضخم. فهو أحد المراكز التجارية المهمة خلال العهد العثماني، ويُعد ملمحا لذلك البُعد التاريخي ظل صامدًا يُعبر عن نفسه إلى يومنا الحاضر. وكانت أهمية هذا المركز التجاري تنبع من مكانته الاستراتيجية؛ إذ كان أحد أهم الأبواب التجارية في البحر المتوسط نحو الصحراء الكبرى، حيث كانت البضائع القادمة من البحر المتوسط تنتقل إلى قلب إفريقيا عن طريق هذا المركز التجاري مرورًا بطرق التجارة المختلفة.
 
ومن المدهش أن هذه الطرق التجارية اليوم هي أيضًا مسارات خطوط البترول وأنابيب الغاز الطبيعي. فالبترول والغاز الطبيعي الذي ظهر في أعماق ليبيا يتم استخراجه من طرابلس متخذًا مسارات طرق التجارة القديمة إلى حد كبير. وتُعد ليبيا ثالث أكبر دولة منتجة للبترول في إفريقيا، وتُصدر مقدارًا ضخمًا من البترول إلى الدول الأوروبية والتي تأتي في مقدمتها إيطاليا وفرنسا. ومن ثم ينبغي الأخذ بعين الاعتبار تهديدات القذافي بتخريب خطوط البترول.
 
وكان ضريح "الريس تورغوت" بلا شك أكثر المواضع التي جذبت انتباهي في طرابلس. والريس تورغوت يُعد أحد أبرز البحارة العثمانيين الذين قاموا بحماية البحر المتوسط من أساطيل الحروب الصليبية، وكان قد حارب في المغرب ضد الأسبان الذين طردوا المسلمين من الأندلس. ولعل قول الغنوشي: "لولا الأتراك لكنت مسيحيًّا" مرجعه إلى التدخل العسكري العثماني ضد القوات الأسبانية في المغرب. والحقيقة أن الوجود التركي في ليبيا يمتد إلى ما قبل العثمانيين فتأثير القرمانيين في ليبيا تأثيرٌ واضحٌ يثير فضول الكثيرين.
 
وبينما كنت أقرأ الفاتحة عند ضريح الريس تورغوت إذا بحارث الضريح يتحدث إليَّ، ويمتدح الليبيين واصفًا قدراتهم وإمكاناتهم البطولية، ثم يُتبع حديثه بقوله أن أتاتورك قد قال: "لقد تعلمت الحرب والقتال من الليبيين"، ويختتم حديثه بهذا القول. وبالطبع لم يكن الظرف مناسبًا لأن أسأله: "حسنًا، فمن الذي علمكم الحرب قبل ذلك؟".
 
بيد أن ما قاله حارس الضريح يُعد نافذة من النوافذ المهمة في تاريخنا الحديث. فعندما وجه الإيطاليون رسالة تحذير إلى العثمانيين وأرسلوا جنودهم إلى ليبيا بُغية تحديث ليبيا وتطويرها، قام الضباط العثمانيون آنذاك بالتوجه نحو ليبيا عبر الأراضي المصرية ونظموا هناك حركة مقاومة محلية، ضربت أروع الأمثلة في المقاومة ضد الإيطاليين.
 
ورغم أن ويلات حرب البلقان قد دفعت العثمانيين إلى ترك ليبيا للإيطاليين إلا أنه خلال الحرب العالمية الأولى تم إرسال ضباط عثمانيين إلى ليبيا خفية، وواصلوا هناك حركة المقاومة الشعبية. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى كان الإيطاليون لا يزالون يخشون الخروج من وحداتهم العسكرية الواقعة على الشريط الساحلي الليبي. وكان بين هؤلاء المناضلين أمير عثماني من القصر العثماني. وحتى عند توقيع معاهدة الاستسلام لم تنهزم قوات المقاومة.
 
ففي خلال تلك الفترة كانت الحركة السنوسية وهي طريقة واسعة الانتشار لعبت دورًا مهمًّا على المستويين العسكري والسياسي، تقوم بدور أساسي في حركة النضال الليبي كما شارك زعماؤها أيضًا في حركة استقلال ليبيا. وقد تجاهل القذافي هذه الفترة في تدوين التاريخ الرسمي لليبيا؛ فقام بشطب صفحاتها وأعاد كتابتها كيفما شاء.
 
إن علاقة تركيا بليبيا حاليًا علاقة مثيرة للانتباه. فقد وقفت ليبيا إلى جانب تركيا عندما شنت تركيا حملتها العسكرية الأخيرة على قبرص، وعندما جاء رئيس وزراء ليبيا آنذاك إلى اسطنبول كان بمثابة أمل جديد إلى الأتراك؛ فقد زود القذافي الأتراك في قبرص بالأسلحة.
 
وعندما نتذكر أن بعض الدول العربية وفي مقدمتها مصر كانت على علاقات وطيدة مع القبارصة الروم يمكننا أن ندرك حجم ذلك الموقف الليبي في فترة فُرض فيها الحصار على تركيا.
 
وختامًا فإننا بحاجة إلى أن يجدد القُراء والكُتاب في تركيا ذاكرتهم، وأن يعيدوا تقييم العلاقات التركية الليبية، فمشكلة المعرفة والمعلومة الصحيحة مشكلة ذهنية عامة ليست محصورة فقط داخل الوسط الإعلامي بل تعيشها أيضًا الأوساط الأكاديمية ومسئولي الخارجية التركية.

0 التعليقات

إرسال تعليق